Wednesday, November 28, 2012

"سيد قطب ..والأصولية الإسلامية"..عن خطابات الاستبداد فى الثقافة المصرية


من زاوية تحدد أهمية تناول دراسة ظاهرة الأصولية الإسلامية فى مصر،من حيث أن موقفها من العالم ينفى دور "عقل" الفرد فى تناول قضاياه استسلاما لسلطة نص الهى لا يمكن مناقشته،يربط د.شريف يونس (الكاتب السياسى وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان)  فى كتابه "سيد قطب ..ومصادر الأصولية الإسلامية "جوهر استبداد خطاب الأصولية بمثيله فى الخطاب الوطنى العام،الذى اعتمد كليهما الاقصاء الفكرى للآخر،وفرض" هوية واحدة على المواطنين،بقوة من أعلى،تفترض صلاحها ونقاءها.
مفهوم الدولة القديم،الذى كشفت ثورة 25 يناير عن وهنه،و بدأ مع "محمد على" مؤسس مصر الحديثة،قمعى بقدر ما كان تنويريا"-وفقا لرؤية يونس،فهو يجر المواطن المصرى إلى "التقدم" برؤية "الحاكم " واحتياجات دولته المتخيلة فى ذهنه لا حاجات مواطنيه، مما ترتب عليه اجراءت تتخطى "حرية الإنسان" و"كرامته" و"تنوع مصادر ثقافته"،"وتعدد هوياته داخل المجتمع الواحد":القهر مقابل التنوير،مبارك أو الفوضى،الإخوان أو حرب أهلية،هوية واحدة لها ملامح خاصة وثابتة مقابل تهميش للأقليات"،فسطاطين"الحق" و"الباطل"،فى مجتمع  لم يعد فيه المتدين بالضرورة يطالب باقامة الشريعة،ولم يعد فيه "العلمانى" بالضرورة مستبعدا أثر الدين فى حياة مجتمعه، عصر "الهويات المتشابكة".
لم يكن خطاب الأصولية الإسلامية بعيدا إذن،فقد نشأ جدل البحث"عن الحداثة" فى منتصف العشرينات فى مجتمع طبقى،يقسم نفسه إلى نخبة عارفة وجماهير جاهلة،لا تعرف حقوقها،الخطاب الذى ربما كان يتناسب مع عصر غلبت فيه الأمية،ويتم استعادته فى أشكال عدة الآن ،أسوأها قد يكون ما يمثله تيار الإخوان المسلمين ،الذى يتبنى رؤية اقامة مجتمع من أعلى،يتشابه فيه أفراده،مستعينا بما تبقى من آليات قمعية لدولة النظام السابق"دولة العسكر الممتدة منذ ثورة يوليو"،فى لحظة لم يعد فيها المجتمع مهيئا لاستقبال "ديكتاتورية" جديدة،تجره إلى "التنوير" أو "النهضة " المتخيلة فى ذهن الحاكم،فاللحظة هى لحظة "أفول" لمفهوم الدولة القديمة.
عبر خمس فصول،يحلل د.شريف يونس مراحل تطور فكر سيد قطب من  اقتحامه المحدود لمجال الأدب،إلى اقتحام "المجتمع" بمشروع "شامل ونهائى"،وأثر  فكرة الحاكمية التى طورها قطب عن المودودى "الفكرة القنبلة" كما اسماها الكاتب،على مجتمع فشل الخطاب الوطنى فى "تنويره" بالقوة.
التياران إذن"العلمانى"و "الإسلامى" منذ نشأتهما فى مصر كانا يبحثان عن تقدم "الأمة"،سواء عبر الاستفادة من علوم الغرب،أو بالعودة الحرفية إلى التراث الإسلامى،او بالمزج بينهما،وفى مقابل خطاب يحتقر "الغرب " ويطالب "بالحقد المقدس" نحوه،يوجد خطاب يستبعد منجز"ابن تيمية" ويشكك فى تراث الشرق بشكل عام.
يسقط شريف عبر بحثه أكثر من فرضية:فتحولات سيد قطب من الأدب "العلمانى" إلى "تكفير" المجتمع لم يكن تناقضا فى شخصيته أو أفكاره بل تطور طبيعى لخطاب مستند فى الحالتين إلى دور يجعل الأدب خادما فى قضية كبرى يهدف إلى اعادة تشكيل الناس على مثال واحد "الشاعر السامى والممتاز " عن الجميع،سواء فى طبعته التى كانت تفصل وفقا لرؤية قطب وقتها الأدب عن الدين،أو عندما دعا إلى أدب إسلامى يخدم تصوره عن "المسلم السوبر،السامى والمتفوق عن الجميع،وهى فكرة ترددت أيضا فى الخطاب العلمانى وقتها عن الفرد"السوبر مان".
تبدو رحلة قطب أيضا وفقا للكاتب نموذجا للتوتر الناتج عن عدم  التأقلم مع "حداثة" المدينة،و قيمها،وهو ما سيفسره فى نهاية الكاتب بوجود قطاع كبير من المجتمع،كان على استعداد لاعتناق مشروع سيد قطب،لشعوره بهذا الاغتراب،فى مجتمع لم ينجز ما وعد به من رخاء وتقدم،واحساسهم عبر مشروع يخدم قضية كبرى والهية،بالتفوق والتميز عن المجتمع،مع فارق جوهرى يطرحه يونس أنهم ليسوا فاقدى للشخصية،بل كانوا فى هذا التوقيت نواة تمرد على قيم سائدة بقوة القهر،وعلى فرض نموذج واحد لما يجب أن تكون عليه الشخصية المصرية،وان كانوا فى المقابل قابلوا القمع بقمع مماثل عبر تكفير المجتمع لصالح هويتهم هم تمهيدا لفرضها هى الأخرى بالقوة.
يرصد الكتاب،المرحلة الانتقالية من الأدب إلى الأصولية،والتى بدأ فيها قطب فى التخلى عن طموحاته الأدبية التى لم تكلل أبدا باليقين،وهى مرحلة اهتم فيها قطب،بالاصلاح الاجتماعى،مع انشاء وزارة الشئون الاجتماعية عام 1939 عبر مجلتها"الشئون الاجتماعية"،فى ظل روح عامة لدى "علمانيين أيضا كميريت غالى وحافظ عفيفى يطالبان بتحقيق اصلاح اجتماعى من داخل النظام يشترط"ابعاد الجماهير من حلبة السياسة".
عبر أكثر من مائة مقال كتبها قطب لمجلة الشئون الاجتماعية طرح فيها رؤيته الشاملة لما أطلق عليه "المجتمع المتوازن"،الذى "يهندس" من أعلى ايضا،والتى يرى يونس أنها تتغافل عن تكوينات" الأمة" المتناقضة والمتشابكة.
طرح قطب فى تلك المقالات عكس تصوراته الأولى عن الفن،تشديد الرقابة على الانتاج الفنى،كى يوجه لخدمة قضيته،واستخدام رجال الدين للترويج لمشروع "الإصلاح"،وهو ما تم استخدامه من قبل الضباط الأحرار،واستمر إلى الآن.
توحيد العقلية المصرية لدى قطب،كان صنوا لهوية محافظة،تستبعد المرأة وتقصر دورها على التدبير المنزلى ومربية للأجيال وفقا للنمط الواحد الذى يجب أن يكونوا عليه،وعدم الاقتداء بالغرب فى تلك الناحية،فقد كان قطب فى تلك المرحلة رغم عدائه لقيم الغرب"المادى" فى مقابل الشرق" الروحانى"على استعداد للاقتباس من الحضارة الغربية ما يفيد وفقا لدولته" المتخيلة".
لكن مشروع"المجتمع المتوازن" قد تحول من أفكار على ورق إلى ايمان بضرورة العمل السياسى من أجل تحقيقه،فبدأ فى إدانة الأحزاب وتعددها،ثم سرعان ما تمرد على النظام القائم،عندما شعر بإنه لن يستطيع أن يقدم رؤيته من خلاله.
لم ينضم قطب إلى جماعة الإخوان المسلمين،قبل ثورة 23 يوليو رغم علاقته الوثيقة بهم،التى رأى فى ضباطها الأحرار،نخبة جديدة قادرة على أن تساعده فى فرض رؤيته،بعد "فشل الشعب فى انتزاع حريته بيديه"،بل وأدان معهم الاعتصام العمالى الشهير بكفر الدوار،وطالب محمد نجيب بديكتاتورية "مؤقتة" فوق الدستور تعمل على تطهير الأحزاب أيضا،هذا الخطاب له مثيله فى كتابات تيارات ليبرالية وعلمانية،فى هذا العهد.
لكن سيد قطب سرعان ما انفض عن نخبة الضباط،بعد ادراكه أنهم لن يساعدوه فى تطبيق مشروعه،الذى يرفض باقى النظم الأخرى.
علاقة قطب بالإخوان بدأت عام 1950،لكنه حاول طيلة الوقت الحفاظ على استقلاله عنها،قبل أن يحسم أمره عام 1953،وتولى قسم نشر الدعوة بالجماعة التى كانت تشهد انقسامات حادة،نجح فيها الهضيبى بالكاد فى الحفاظ على جسد الكوادر الفعالة للجماعة،مع تجمد وظيفى.
قبض على قطب فى نوفمبر عام 1954 وحكم عليه بالسجن 15 عاما،تعرض فيهم للتعذيب،لكن السجن منحه فرصة تطوير أفكاره من مستشفى السجن،متوصلا إلى تقسيم المجتمع إلى غالبية تعيش فى جاهلية وقلة مؤمنة "عصبة" يقع على عاتقها "جر" المجتمع والدولة الكافرة إلى الإسلام وفقا لتصور قطب،قبل أن يعدم فى عام 1966  بعد افراج صحى قصير،كان قد نشر كثير من كتاباته أثناء فترة سجنه فى مصر:منها "معالم فى الطريق" و"المستقبل لهذا الدين". واستكمل نشر "فى ظلال القرآن"،رفض الاعتذار عن أفكاره محققا رغبة يؤصل لها يونس فى كتابه بالشهادة من أجل فكرته.
يرى يونس إن إنسان قطب"الممتاز" انسان مرعوب دائما على الإسلام من الانحراف،ولا خيار أمامه سوى للحفاظ على نقاءه سوى مزيد من الاغتراب،ليصبح مؤهلا لمحو "فردية الناس وإراداتهم بموجب التشريع والأوامر الإلهية"،فيصبح الإسلام فى مواجهة العالم،وترغب التيارات المواجهة فى تحطيمه.

الأفكار التى انتشرت فى السجون،وتبناها قطاع من المجتمع،عقب وفاته،وتم التوصل إلى نتائج فقهية بشأنها،وانطلقت تيارات تكفيرية من عباءته،فيما رفض الإخوان  المسلمين أفكار قطب،وكتب الهضيبى كتابه الشهير"دعاة لا قضاة" ردا على أثر قطب على جماعته،للحفاظ على احتكار الإسلام السياسى وصدارته،مضطرين وفقا للكتاب "تفصيل نمط تكفير خاص بهم" ويخدم أهدافهم فى مقابل فكرة تكفير المجتمع أفرادا ودولة".
يرغب الكتاب  فى طبعته الثانية الصادرة فى 2012 عن الهيئة العامة للكتاب  فى طرح أسئلة حول طبيعة الاستبداد فى ثقافة النخبة المصرية،وهو مشروع ممتد عبر 6 مؤلفات(منها سؤال الهوية،الزحف المقدس..،و5 ترجمات(منها البحث عن الحداثة،كل رجال الباشا) اختارها د.شريف يونس بعناية لتدعم أسئلته حول مفهوم وصاية الدولة عبر قهر مواطنيها وتوحيد عقليتهم وهويتهم سواء بحجج التقدم أو التحديث،يبدو فيها يونس كمن يطارد أثر الأفكار التى لم تعد صالحة لاعادة الاستنساخ من قبورها،ومع ذلك فلا زالت تطاردنا،وتجد من يطالب باعادة انتاج هياكل دعوة القمع الجديدة.
كتابات أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان تبدو مفتاحا مهما لفهم تناقضات اللحظة التى نحياها  وصراعاتها بل ومطالب ثوارها أيضا،تتجلى عندما تتسق مع شرطها الأساسى فى فضح تصلب الأيدلوجيا بوعى متجدد لا يطارد التاريخ بقدر ما يطارد استنساخه الهزلى فى الحاضر،وتقع فى هنات ربما  عندما تستخدم معول الأيدلوجيا فى هدم أيدلوجيا نقيضة.
الأفكار المتجددة والحية لشريف يونس الذى لم يعد يغرد منفردا الآن،لها أثرها الواضح فى كتابات جيل شاب من الأدباء والصحفيين والباحثين،جيل لم يتلقى الماضى كمقدس ولم يرصد الحاضر والمستقبل من لحظة ثبات.