Sunday, February 26, 2017

الطابق الهاديء.. قصة قصيرة


لا أؤمن بالتجارب الروحية أو الوحي. لكني تعرضت لحكاية عجيبة حدثت لي على مقهى يميزه تليفزيون معلق في الهواء، يصارع كل الأصوات بصوته العالي عبر السماعات الضخمة. غير موجه إلى أي مشاهد آخر في المقهى سوى صاحبه. يرفض بشدة أن يضبط صوته، ليمنح الآخرين نفسا للكلام. لا يشغل المباريات في وقت المباريات، يبدل القنوات ما بين روتانا كلاسيك والمصرية الفضائية. من يشاهد المصرية الفضائية؟ ربما من وقت لآخر يفضل أن يستمع إلى وائل الإبراشي في برنامج العاشرة مساء.
المقهى يملك مكانا رائعا، فهو في بطن الشارع لا خارجه، يحتل قسرا مكانا واسعا بين أربعة عمارات، هذا يحميه من شرطة المرافق. لكنه خاو دوما بسبب التلفاز الذي يلتهم الأصوات، ولا يستجيب لرغبات المشاهدين. يمكن له أن يجني أضعاف أضعاف ما يجنيه، بسرقة وصلة بين سبورت أو دفع اشتراكها، أو فقط اكتفى بصوت هاديء. لكنه لم يفعل. ولن يفعل. لم أفهم أبدا، كيف لا يستجيب وهو يملك لنداء الخدمة الجيدة.
جذبني المكان وخلوه من الرواد، نظافته النسبية مقارنة بالمقاهي المحيطة، ظننته مكانا مثاليا للقراءة والتدرب على الشطرنج عبر هاتفي. كنت مخطئا بالطبع. لم يستجب لطلبي ولو لمرة واحدة بأن يخفض صوت التلفاز. ولم أبحث عن مقهى آخر، ببساطة دربت نفسي مرة تلو مرة على التكيف. فتلك المقهى صارت خياري الأخير، بعد أن تشاجرت مع أغلب المقاهي المحيطة بي فقط لأني أطلب خدمة جيدة. لقد صار ذلك أشبه بالمستحيل. كما أني لن أتحمل دفع مبالغ طائلة يومية من أجل فنجان قهوة في الكافيهات الهادئة مرتفعة السعر.
بعد عدة أشهر متواصلة من الجلوس على المقهي يوميا، صرت أسمع أقل. سمعي سليم، لكنه لم يعد يلتقط إلا ما يريده. أهذا أثر المقهى؟ أنتبه لعالم كامل داخلي أحاول أن أجعله مقتصرا على اثني وثلاثين قطعة بيضاء واثني وثلاثين قطعة سوداء. عالم غير مخادع، حتى لو كانت السيطرة عليه شديدة الصعوبة وتحتاج إلى تركيز لم أعد أملكه، وذكاء كنت أظنني أملكه.
ربما الخدمة الجيدة  لهذا المقهى هو قلة زبائنه.
عمال المقهى شديدوا الاهمال، يلبون الطلبات ببطء وبلا مبالاة. لكنهم يتركونك لحالك، لا يلمحون إلى غرابتك أو يحاولون شد أواصر الصداقة، وهو ما يناسبني تماما.
لكن ذلك تحطم هذا اليوم. كانت الثانية صباحا، عندما جلست هناك، أقاوم الأرق ويأس الحصول على الخطوة الصحيحة. لاحظت أنهم مشغولون بإصلاح التليفزيون الذي توقف عن العمل. أهملوني أكثر من نصف ساعة، وعندما لوحت بانزعاجي من الأمر، قال القهوجي بخشونة لم أعتدها: ثواني يا بيه. فكرت في أن أقوم من مجلسي بغضب كما أفعل كل مرة أو التشاجر مباشرة والقاء محاضرتي المعتادة عن الخدمة الجيدة. لكني آثرت الانتظار خوفا من أفقد مقهاي الأخير في الشارع. 
كان اليأس يستبد بهم في إصلاح التليفزيون المعلق في الهواء، وكان صاحب المقهى يلوم القهوجي بشدة، ففهمت أنه السبب. كان مصرا على عدم الانتظار حتى الصباح لايجاد فني يتمكن من اصلاحه. حاولت أن أشغل نفسي باستذكار خطوات افتتاحية الطابق الهاديء، الافتتاحية المناسبة للمبتدئين في الشطرنج، تلعب منذ منتصف القرن السادس عشر. لازلت أخسر بها، يبدو لي أني سأظل أفعل حتى لو كنت ألعبها منذ قرون. فوجئت بالقهوجي أمامي، ظننت أنهم يأسوا أخيرا من إصلاح التليفزيون، وأنه جاء لأخذ طلبي الذي لا يتغير عادة. قهوة مضبوط، ونارجيلة. يعقبها جنزبيل بالقرفة. لكنه طلب مني أن أساعده في إصلاح التليفزيون. قلت معتذرا: لكني لا أفهم في إصلاحه. فاجئني بإصراره. قال: أراك تقرأ كثيرا، وكل ما في الأمر أن أماكن الوصلات باللغة الإنجليزية. حاولت الهروب، لكن إصراره كان مدهشا، كأنه لا يسمعني، كان متوترا لتبرم صاحب المقهى، وإدانته بالجرم المشهود، فقد سقط التلفاز عندما حاول القهوجي أن يصلح شيئا ما. لم يتحطم لحسن الحظ، يقول همسا" قدمي تحملت ألم ثقله، خففت من سقوطه، ولم يرض المعلم"  لكنهم عندما نجحوا بصعوبة في إعادة تركيب الوصلات، لم يعمل سوى الصوت. أما الصورة فحل محلها ذلك النمش المميز لتوقف البث.
عيونه المستنجدة بي بوصفي رجل "أقرأ كثيرا" ستصاب بخيبة أمل. لماذا يتحمل صاحب المقهى على أي حال، ألا يكفيه أن يعمل لديه هذا المسكين اثنى عشر ساعة بثمن بخس، هذا المسكين لابد أنه أنجب مزيدا من المساكين، دون أن يفهم أحد ما المبرر. قمت، لا لشفقة به، لكن للانتهاء من هذا المشهد والحصول على كوب قهوة بأسرع وقت. حتى لو كانت الأزمة في اللغة الإنجليزية لأماكن الوصلات، فأنا أرتبك عادة تجاه كل ما هو يدوي، أفشل حتى في إعداد كوب قهوة أو شاي.
صعدت على طاولة كي أصل إلى التليفزيون العالي. قرأت أماكن الوصلات في الريسيفر، كنت سأكتفي بأن أقول له: لا أدري، تبدو الوصلات في مكانها، كي أعود إلى مكاني. لكني وجدت نفسي بدلا من ذلك، أطلب عدة مفكات، لم أعرف لم. جائني بها القهوجي ووافق صاحب المقهي طمعا في أن أوفر عليه أجرة صنايعي. فككت الرسيفر مخرجا المازر بورد، لم أكن حقا أفهم ما الذي يحدث، كنت أعرف أين الخطوة الصحيحة لاصلاح التلفاز. هذا غريب، لكني تابعت، في متاهات المدينة الصغيرة للترانزستور المستغلقة على شخص مثلي، أضاءت أمام عيني القطعة المراد إصلاحها. كان شيئا بسيط، أعدت ضبطها، كأني أحترف هذا منذ زمن. لم تكن دهشتي أكثر من دهشة صاحب المقهي، أعدت تركيب الريسيفر، وعادت الصورة جيدة كما كانت. قال القهوجي الذي راهن علي: مش قلتلك يا بيه. 
ابتسمت، لكن هذا شديد الغرابة، لم أعرف لم كان علي أن أخرج المازربورد، ولما نظفت تلك القطعة بالذات. أخرجني من أفكاري انقطاع الصورة وعودة النغمشة من جديد، ها أنذا، ذلك أكثر منطقية، ثم تبدلت القنوات في سرعة قبل أن تستقر على قناة غريبة، وسط فزع صاحب المقهى ونظراته الحارقة. جذبني الرجل في التلفاز، أنا أعرفه، لكني لا أذكر أين. تلك الصلعة، والسمرة والنحولة، والشارب الخفيف، بدا أنه الضيف في الحلقة. كان يصرخ بجنون: إذا أردتم أن يخف الغلاء فلتتحجب النساء. ثم اقترب من الشاشة محملقا فينا، قائلا: أنت.. ألم تسأم بعد من أنك دائما لا ترى الخطوة الصحيحة؟ لقد ذقت حلاوة الأمر.. فاصدع واقترب. ثم عادت النغمشة من جديد لثوان، قبل أن تستقر من جديد على الفضائية المصرية التي كان صاحب المقهي يشاهدها بشغف. بصورة وصوت واضحين.
عدت إلى مكاني متعجبا دون أن أنسى أن أذكره بالقهوة . لكني قررت أن أعود إلى ما أحاول فهمه. الخطوة الصحيحة للطابق الهاديء. ظل صاحب المقهي يقلب القنوات بشكل أزعجني، جائني القهوجي بالقهوة. قائلا: على حساب المعلم، لكنه يستأذنك أن تساعده في إيجاد تردد القناة التي كان يصرخ فيها الرجل: اصدع واقترب.
قلت له بعصبية: لن أبرح مكاني. شربت القهوة، خسرت المزيد من الأدوار، ومضيت.


نشرت في أخبار الأدب 

Tuesday, February 7, 2017

وهبة.. فصل من رواية سيرة سيد الباشا



وهبة 
انتهى من الساندوتش واقفا على ثلاث قضمات. ثم اتجه إلى محل عصير القصب المواجه له. جنيه آخر طار. شرب. تجشأ. فكر إن كان قد بسمل قبل الأكل. ينسى كل مرة. حتى في حياته السابقة كان ينسى.
توجه إلى بنسيون فقير، معزول، لإعداد خطته بشأن فرصته الثانية للحياة. يذكره الأمر بخروج زميله نور الشريف من السجن في فيلم كتيبة الإعدام، مفلسا، محاصرا بوصمة الخيانة، أعجبه الدور، كان يتمنى لو لعبه، نصف فرصة في بطولة. لقد أهدروا ما يملك من وسامة وموهبة في لا شيء: ضابط يكافح المخدرات، أو مجرم يتاجر بها. حتى حياته جعلوها بالفصام نفسه: كان يحب المخدرات، وعليه أن يتحدث عن كرهها وضررها في الأحاديث الصحفية والإذاعية وعن خطورتها على أخلاق المجتمع.
لم يعرف أحد أنه مثل هاملت. وأنه بهر النقاد بأدائه في فيلم إيطالي وأجبر الأجانب على التحدث عن الموهبة التي فركتها الطاحونة في مصر، وأعطى النقاد المصريين طريقة للتفاخر ببلد خلق ليقتل التميز أصلا.
قالوا: "هذا هو الممثل المصري، فقط لو أتيحت له الفرصة سيجعل من حوله يشعرون بضآلتهم".
طحنوه. فغلف نفسه بكبرياء يصعق من يقترب منه، مشهرا كرامته وتعاليه كمطواة في كل مناسبة، انتقامه الخاص. حتى شلة المخدرات من الممثلين لم يعفهم من احتقاره لهم. كانوا يعرفون طيبة قلبه المختبئة كلؤلؤة لم يكن يكشفها إلا عند نقطة النشوة التي يصل إليها عبر المخدر.
لم يتعرف عليه أحد في البنسيون. فقد وسامته، أصبح أقصر، بكرش ضخم يتقدمه. له زبيبة صلاة ولحية ضخمة يرتدي جلبابا سنيا أصر القائمون على الأمر على تنكره فيها: إن حاولت تغييرها، ستموت ثانية.
يعذرهم وهبة. ليس من المحبب أن ينتشر بين العامة أن عودة الموتى أمر ممكن.
شيء واحد كان يضايقه بشأن هيئته الجديدة. أطرافه لم تكن مثبتة بشكل جيد. كانت مفككة قد تقع منه في أي وقت. رأسه وقع ذات مرة في مشهد فضيحة. قطة كادت تأكل ذكره عندما سقط أسفل طاولة مقهى. ساعده طفل ذات مرة على تثبيت ساقه اليسرى.
الزمن تغير، قال لنفسه: لا بد أنهم رأوا ما هو أفظع أثناء موتي. في حياتي السابقة كان الناس سيصدمون حقا من مشاهد كتلك. لكن هؤلاء تعاملوا مع الأمر بعادية مزعجة. ثمة شيء مقتول في دنياهم، كيف أؤسس لحياة جديدة في عالم كهذا.
عندما أغلق باب حجرته عليه. قرر أنه لن يستسلم للكسل ولإضاعة المزيد من الوقت. سينتهي من كتابة خطته لحياته الجديدة، لتسليمها إلى القائمين على الأمر. الموعد النهائي الذي حددوه قد اقترب. لم يفكر طيلة ثلاثة شهور من ميلاده الجديد إلا في البحر، كلما جلس وبدأ في كتابة خطته متحاشيا المحظورات الثلاثة: التمثيل، المخدرات، لم يخبروه بالثالثة، تركوها له كفخ.
بدأ في الكتابة، لكن لا شيء سوى البحر، القلم يتحرك من تلقاء نفسه، سود صفحات كثيرة لا تحمل سوى كلمة البحر، ظل هكذا حتى شعر بدوار ثم ميل قاتل إلى النوم، ميل يرعبه، فهو يعني العودة إلى الموت مرة أخرى.
قبل أن يسقط نائما، واتته الفكرة اللامعة: لا فكاك من البحر.
*****
قالت يارا  لوهبة: متى تتوقع انتهاء العمل؟
نظر لها معاتبا: لو توقفنا عن السؤال، واستمر الإخلاص.
واصلا سكب البحر في فناجين وجرادل بلاستيك. لم يلتفت لعينيها الواقعتين في الغرام.
عندما رأت ذلك المجذوب، يحاول أن يفرغ البحر عبر فنجان صغير، عرفته رغم كل الحجب: الكرش، الزبيبة، الجلباب، اللحية الكثيفة. إنه فتى أحلامها، وهبة الوسيم، الذي تخلل السينما بمشاهد لم يكن بطلها. مات قبل أن يعرف رأسه الشيب وتدرك حيويته الترهل. من امتلك القوة للخروج على القانون، والضعف ليشيد بأهميته.
كانت يارا في إجازة للاستشفاء من إعياء مقيم بسبب حبيبها السابق حامد، الذي عاش حياته يقتات على الحديث عن صناعة فيلم وثائقي عن حياة مجدي وهبة ورغبته في الموت صغيرا ولو بالسرطان. فزرع فيها كابوس رغبتها في القتل دون أن تكشف. وهو ما أقره وهبة: "من يرغب مخلصا في القتل، فعليه أن يكون مدربا على إخفاء الأثر".
رغم أن وهبة كان قليل الكلام فإنه كان أكثر حنوا عليها من حبيبها السابق، وإن لم يكن أقل صرامة. لم يعترض عندما حاولت مساعدته في سكب البحر في فناجين قهوة. بل ربت على كتفها مشجعا عندما اشترت جرادل بلاستيك من التي يلهو بها الأطفال على البحر.
عندما أتى ثلاثة أشخاص عرف وهبة أنهم من القائمين على الأمر، وأنهم جاؤوا للتأكد بشأن خطة فرصته الثانية للحياة. أخرج لهم رزمة ضخمة من الأوراق. أعد فيها خطة محكمة تحت عنوان: لا فكاك من البحر.
قلبوا الأوراق، نظروا إلى بعضهم مدهوشين، ثم ضحكوا بقوة.
طالبوه أن يأتي معهم بهدوء. أغروه بكفن جميل وجديد بدلا من الذي اهترأ. لكنه أشار إلى يارا المنهمكة في تعبئة الفناجين والجرادل بماء البحر، كان وهبة يعلم القانون: حياته مرهونة بإقناع شخص واحد على الأقل بخطته.
لم يماطلوه. كانت يارا حقا تفعل كل شيء بإخلاص وباختيارها تماما. ليس بإمكانهم سلبها هذا. قال أحدهم بحنق: سنعود.
قرر الثلاثة أن المشوار لا ينبغي أن يذهب هدرا. أخرج أحدهم عوامة ورش زميليه بالماء، قبل أن يبدأ محاولاته المضحكة في العوم.
دفن ثانيهم جسده في الرمل عدا رأسه، ودفن ثالثهم رأسه وترك جسده، ليبدوا كما لما لو أن رأسا يحتضن جسده المفصول عنه. طلبا من يارا أن تلتقط لهما صورة.
تأملا الصورة في ابتهاج قبل أن يسأل أحدهما الآخر: هل تصدق حقا أنه لا فكاك من البحر؟ رد زميله: لا أدري.. لا أفهم تلك العبارة أصلا، لكنها ستجد صداها في الأرض إذا ما تم تكرارها بشكل كاف، وسيصبح لها مؤمنون وتفسيرات عدة.
طالبا زميلهما بالخروج من البحر حتى لا يتأخروا على موعد عودتهم، لكنه تجاهلهما، فقررا أن يحفرا نفقا في الرمال إلى الصين إزجاء للوقت حتى يخرج.
أما وهبة فأعطى يارا رزمة الأوراق التي أعدها كخطة، قائلا:
"اقرئي ما في هذه الأوراق جيدا، نفذيه بالحرف، عندما يعود هؤلاء إلى القائمين على الأمر، ستأتيهم أوامر بإعادتي مرة أخرى، مهما كانت أسبابي".
فك وهبة قضيبه، وأعطاه لها: عبر هذا سنتصل. كلما أردت عونا ضاجعي نفسك به، وسألهمك الطريق، عدة مرات من استخدامه قد تصل بين روحينا المعلقتين بين السماء والأرض دون الحاجة إلى قضيب، ربما أتمكن من الحلول في جسدك أحيانا".
لكن وهبة لن يعود، لن يحل بروح يارا. لقد جاء ليختفي. تلك الأوراق لن تلعب أي دور، سيغيظه هذا، ربما يقتحم مشهدا أو اثنين ليفسدهما، لا يزال وهبة في قرارة نفسه نجما رغم أنه ميت.
ستفتح يارا الأوراق التي تتوالد ذاتيا بلا نهاية. لم يدون بها سوى عبارة واحدة: لا فكاك من البحر، لا فكاك من البحر، لا فكاك من البحر.. لا فكاك من البحر.
ضحكت يارا بأسى عندما اكتشفت الأمر. لكنها تعرف أنه محض مجنون يعتقد أن غموض كلماته واقتصادها قد يضفي عليها سحرا ويحولها إلى سر يجب أن يكشف، يربط العظمة بالتعقيد. التعقيد في رأيه سيمنحه السلطة التي تسكن من بيده المعرفة. إنها تدرك كنه وهبة جيدا. لقد رأته من قبل متجسدا في حامد الذي لو امتلك زمام الأمر لقبض أرواحا كثيرة ليحل العدل كما يراه ويقيم الدنيا على مقاس عينيه.
واصلت صب البحر في فناجين. ربت وهبة على كتفيها كأب، لكنها قبلته كامرأة، ندة له. أزعجه الأمر في البداية ثم استسلم. التقط القائمون على الأمر صورة لهما. همس أحدهم في أذن وهبة: "احصلا على غرفة". فكروا في أنهم يملكون القدرة على صناعة غرفة. فعلوا. لكنهم فقدوا هبتهم وتحولوا إلى خنافس دهسها البشر. أما يارا التي تملك قضيب وهبة بالفعل، لم تمنحه إياه بسهولة في الغرفة. أمتعها إذلاله قبل أن تعيده إليه مؤقتا، بعد أن توسل كدجاجة لا كسيد عظيم.


Monday, January 23, 2017

هكذا خسرت العالم (1): في محبة الفيل ونسيانه


أعتقد أن الطبيعة أخطأت عندما منحتني دور الأخ الأكبر، تماما كما تخطيء عندما تُلبس رجلا روح امرأة والعكس. أخطاء كتلك تضمن لأصحابها شعورين متناقضين: القداسة، لأنهم يدينون الطبيعة بشيء، والإحساس الهائل بكونهم محض متطفلين على النظام الصارم للطبيعة. 
لم يكن بداخلي روح أخ أكبر. لم أقد إخواتي إلى شيء، ربما جربنا معا بعض الأفكار الفاشلة، وابتكرت لهم بعض الألعاب الجيدة، التي لا تفتقر للخيال ولكنها كعادتي تفتقر إلى الدقة، لكني أبدا لم أستطع أن أمنحهم النصح دون إفساد. أفكر أني لم أنجح طيلة حياتي في اسداء نصيحة جيدة لأحد، دائما ما تقودهم أفكاري الصحيحة في خيالي إلى أماكن وعرة. لا يمكنني التذمر، فالنصيحة  هي الوسيلة الأكثر نقاقا للاستيلاء على الأرواح.
لذا بنيت تصوري عن الأخ الأكبر، الذي احتجته كأب بلا مخالب، هو شخص يتركك تفسد للنهاية، ثم يطل بالحل في اللحظة الأخيرة. أن تعرف أن من حقك أن تغمس نفسك في التجربة الخطأ، فثمة من سينقذ روحك في النهاية، دون أن يطالبك بها.
لهذا تعلقت بالفيل، وأحببته بشدة
الفيل علامته وليس اسمه. لكنه يحب تلك العلامة، لذا سأذكره بما يحبه.
الفيل كاتب تمنيت صغيرا أن أكونه، وعندما قابلته فشلت في النهاية باقناعه بالمحبة التي أكنها له، حتى أنه رآها كعبء لا يطيقه.
لكن المحبة ليست التعريف الدقيق لوصف ما أشعر به نحو الفيل. تلك محبة عالقة، عند لحظة في الزمن، احتشدت وراءها كسور يعيق تلك المحبة عن التقدم والفيض، لألقمها للنسيان، أو  أحتجزها للتلذذ بذكراها، محاولة يائسة لمنع المحبة والكراهية. فمن الفيل تلقيت عبارة شديدة القسوة توجت ذروة انكاري للصداقة، لازالت ذكراها تعيق تنفسي للثقة في نفسي، بل ردتني إلى وضعي الأول خائفا من العالم، أو ربما عرت حقيقتي كمتطفل لا كغريب . ماذا لو أخبرت شخصا أنك تحبه، أنك تفتعل الصدف كي تتعامل معه وكي تثبت المحبة. فأخبرك: نعم.. أعلم.. هذا يخجلني. لم يكن لسياق الرد معنى: أكثر  من أنه لم يعد قادرا على استقبال محبتك ونفوره منها يربكه. ليست إلا عبئا ثقيلا على بدن فيل يمكنه احتضان العالم وأن يرى في نفسه القدرة على الطيران والخفة، لكنه غير قادر على استيعاب محبتك.
في مراهقتي كانت صور الكتاب تحت زجاج مكتبي لا نجوم السينما. هؤلاء كان نجومي. كان الفيل من بينهم حتى لو لم أضع صورته تحت زجاج المكتب. كنت أقرأ كل ما يكتبه بشغف، حتى أني راسلته دون أن يرد قبل أن أقابله بعدة أعوام، طلبا لرأيه في قرار مصيري بتحويل دراستي من الصيدلة إلى الإعلام. لم يرد واستكملت دراستي البائسة، لم يتذكر الرسالة أصلا عندما قابلته. كنت محض معجب، ولم أغادر تلك الخانة أبدا، حتى عندما صرت صديقا، وعندما تطور الأمر إلى بوادر  بنوة خفية بيني وبين أب بلا مخالب الأبوة، وعندما ذوت تدريجيا، ظل جوهرها دائما على الحواف، متطفل يضاحك حشد، ولا يصبح أبدا منتميا إلى أحد.
أنا أتفهم علامة الفيل. يطير  داخل بدانته، يرتشف العالم ببطء، بكسل لا يغوى بإيقاع الحياة. ضخامته هيبة على عكس هيبة الأسود. لادم يسيل من شفتيه، بل خضرة الأرض. لذته المياه، وجبته التأمل. بدانة تحتضن العالم، أو توحي بذلك. لكن الفيل لا يحب إلا شبيهه وينفر من عصفور يطل عليه منبهرا ومحب؟ كنت عصفورا  في طير التكوين، حتى لو لم أصبح فيلا في نهاية المطاف. العصافير  قد تكون ثقيلة الظل إذا ما احتمت بالصمت والانبهار.
كانت هزيمتي الأولى معه. عندما توقفت عن الكلام في حضرته. أحضر جلساته دون أن أتفوه بحرف، لا يعرف أن المحبة قد بلغت حد أن رؤيته تكفيني. هذا جسد قادر على احتضاني من المدينة الغادرة. لا سند لي فيها. أبي ينكر  عصياني ويراهن على عودتي مهزوما وعمي الصحفي الكبير ينكر وجودي في القاهرة، "لعب العيال" الذي استمر  أكثر من عشرة سنوات.
أتذكر أن أول ما نشر لي كانت بورتريهات تتقصى القادمين إلى القاهرة بأحلام كبيرة، ثم تخطاهم العمر دون أن يحققوها، دون قدرة على التقدم أو العودة، بلا أمل أو يأس. كنت أتقصى عن هاجسي، وأتونس بحكايات الحالمين الفشلة، لا أعلم إن كنت أبحث عن عزاء لو فشلت، أو عظة كي لا أفعل. كل ما أعرفه أني قدمت كتابة شديدة التعاطف، مع الحالمين بلا مدد. أرى جوهرها الآن، معكوسا. كتابة فاسدة، تتجاهل أثر القبح، وتنكره لتكريس صورة مزيفة عن الحالمين  لا يدرك الفيل، أني أدركت فسادي منذ زمن، رغم امتثالي لنصيحته" لا تكن كمقريء القرآن، تضغط على المقاطع التي تعلم أن الناس تحبها، وتظن أن الآهات لك، رغم أنها في الأساس لنص لم تكتبه"، ربما لا يؤمن باصلاح ما فسد.
والفيل أيضا ابن مدينة بائسة متلحفة بالريف، لكنه فلح في أن يصير مدينيا تماما. لم أقابله وهو يحارب علل المدن البائسة، بل وهو منتصرا عليها، بينما لم أكن أدرك عورات الطبقة الوسطى بعد. لم تنكشف له عوراتي مرة واحدة. لكن كلما انكشفت له، شعرت بلطمة أب كنت أحتاجه. أب يفهم الأخلاق بمنطق آخر، غير ماتربيت عليه.
والأهم: ادراك عورات الريفي وهو ينتقل للمدينة، تناقضاته. كان يتمشى حولي في الجريدة التي أعمل بها، جاء كرئيس تحرير لم يصمد طويلا. كنت أتنفس أخباره بانبهار، آراه من بعيد ولا أكلمه. انتظرت عندما جاءني للمرة الأولى، بجملة محفورة في ذاكرتي: إحنا سايبينك تلعب في الجرنان براحتك.. بس ماتفتكرش إني مش واخد بالي. ثم تركني مبهورا ورحل. هذا ما كنت أحتاجه: فلأعبث بأعواد الثقاب ما شئت، ففي النهاية ثمة من متى سيمنعني عن إحراق نفسي، وحماية المدينة من لهو الطفل.
تمددت العلاقة نحو المحبة من جانبه، والتعلق بذيله وظله كطفل، وهو ما لم أمنحه لأحد طيلة حياتي التي سبقت حضوره والتي تلتها. كنت في عينيه موهوبا، مجدا، مضحكا. هذا نفخ في عروقي ثقة لم أعرفها من قبل. ثقة أن أخطيء، حتى أني كنت أمرح بدلال طفل، ولم أكن طفلا، لكني استعدت طفولتي كما أردتها. خطاءة بلا عقاب. أتذكر فرحته بأول عدد أحصل فيه على صفحة كاملة، عدد العيد، كان عن البهجة، وكانت المرة الأولى التي أحرر فيها صفحة بلا رقيب، ذكرني بأن أغير شيئا في الصفحة، تعليقا كنت أظنه ظريفا وكان يراه ثقيل الدم. لم أغيره، وتجاهل رغم صلاحياته أن يعدل التعليق. عقب أجازة العيد أخبرني: كل من قرأ ما كتبته أخبرني أنك موهوب،. مع ابتسامة شديدة اللطف والدفء.
ترك الجريدة، ولم أتركه. حتى أنني أبلغت رئيس التحرير الجديد ببراءة بلهاء: سأحاول العمل في جريدة أخرى. لم أفعل. لكني واظبت على مقابلته، ليحل الصمت والانبهار، مكان أشياء يمكن التحدث فيها. لأبدأ في إدراك أن عالمي من المعرفة، لم يجد شيئا ليقوله في حضرته إلا خارج الكوب. وفق تعرف إمبرتوإيكو في بندول فوكو: الحمقى وحدهم يتحدثون خارج الكوب.
ربما كل ماكان يجمع بيني وبينه، هو الجريدة، كنت صالحا حينها لما تؤمن به الصحافة: طفولة تكريس الصورة. بدأ كل شيء في الانهيار تدريجيا، لازالت حياتي سباقا لارضائه ونسيانه. أن أتخلص من معارفي القديمة، أحرقها كي أفهم، عندما قرر ببساطة أن محبتي عبء عليه.

هذا لازال محفورا في ذاكراتي كخنجر. لكني لا أشعر بالألم، وانكر على نفسي اشتهائها لرضاه. المرة الأخيرة التي رأيته فيها، كل ما استطعت فعله، أن أتجاهل وجوده وأن لا ارد الابتسام، آخر خيط في مملكة الصمت المتبادل، لأخبره فليرفع ثقل تلك المحبة عن كتفيه. هو الآن حر، خفيف كفيل يطير.