لا أؤمن بالتجارب الروحية أو الوحي. لكني تعرضت لحكاية عجيبة حدثت لي على مقهى يميزه تليفزيون معلق في الهواء، يصارع كل الأصوات بصوته العالي عبر السماعات الضخمة. غير موجه إلى أي مشاهد آخر في المقهى سوى صاحبه. يرفض بشدة أن يضبط صوته، ليمنح الآخرين نفسا للكلام. لا يشغل المباريات في وقت المباريات، يبدل القنوات ما بين روتانا كلاسيك والمصرية الفضائية. من يشاهد المصرية الفضائية؟ ربما من وقت لآخر يفضل أن يستمع إلى وائل الإبراشي في برنامج العاشرة مساء.
المقهى يملك مكانا رائعا، فهو في بطن الشارع لا خارجه، يحتل قسرا مكانا واسعا بين أربعة عمارات، هذا يحميه من شرطة المرافق. لكنه خاو دوما بسبب التلفاز الذي يلتهم الأصوات، ولا يستجيب لرغبات المشاهدين. يمكن له أن يجني أضعاف أضعاف ما يجنيه، بسرقة وصلة بين سبورت أو دفع اشتراكها، أو فقط اكتفى بصوت هاديء. لكنه لم يفعل. ولن يفعل. لم أفهم أبدا، كيف لا يستجيب وهو يملك لنداء الخدمة الجيدة.
جذبني المكان وخلوه من الرواد، نظافته النسبية مقارنة بالمقاهي المحيطة، ظننته مكانا مثاليا للقراءة والتدرب على الشطرنج عبر هاتفي. كنت مخطئا بالطبع. لم يستجب لطلبي ولو لمرة واحدة بأن يخفض صوت التلفاز. ولم أبحث عن مقهى آخر، ببساطة دربت نفسي مرة تلو مرة على التكيف. فتلك المقهى صارت خياري الأخير، بعد أن تشاجرت مع أغلب المقاهي المحيطة بي فقط لأني أطلب خدمة جيدة. لقد صار ذلك أشبه بالمستحيل. كما أني لن أتحمل دفع مبالغ طائلة يومية من أجل فنجان قهوة في الكافيهات الهادئة مرتفعة السعر.
بعد عدة أشهر متواصلة من الجلوس على المقهي يوميا، صرت أسمع أقل. سمعي سليم، لكنه لم يعد يلتقط إلا ما يريده. أهذا أثر المقهى؟ أنتبه لعالم كامل داخلي أحاول أن أجعله مقتصرا على اثني وثلاثين قطعة بيضاء واثني وثلاثين قطعة سوداء. عالم غير مخادع، حتى لو كانت السيطرة عليه شديدة الصعوبة وتحتاج إلى تركيز لم أعد أملكه، وذكاء كنت أظنني أملكه.
ربما الخدمة الجيدة لهذا المقهى هو قلة زبائنه.
عمال المقهى شديدوا الاهمال، يلبون الطلبات ببطء وبلا مبالاة. لكنهم يتركونك لحالك، لا يلمحون إلى غرابتك أو يحاولون شد أواصر الصداقة، وهو ما يناسبني تماما.
لكن ذلك تحطم هذا اليوم. كانت الثانية صباحا، عندما جلست هناك، أقاوم الأرق ويأس الحصول على الخطوة الصحيحة. لاحظت أنهم مشغولون بإصلاح التليفزيون الذي توقف عن العمل. أهملوني أكثر من نصف ساعة، وعندما لوحت بانزعاجي من الأمر، قال القهوجي بخشونة لم أعتدها: ثواني يا بيه. فكرت في أن أقوم من مجلسي بغضب كما أفعل كل مرة أو التشاجر مباشرة والقاء محاضرتي المعتادة عن الخدمة الجيدة. لكني آثرت الانتظار خوفا من أفقد مقهاي الأخير في الشارع.
كان اليأس يستبد بهم في إصلاح التليفزيون المعلق في الهواء، وكان صاحب المقهى يلوم القهوجي بشدة، ففهمت أنه السبب. كان مصرا على عدم الانتظار حتى الصباح لايجاد فني يتمكن من اصلاحه. حاولت أن أشغل نفسي باستذكار خطوات افتتاحية الطابق الهاديء، الافتتاحية المناسبة للمبتدئين في الشطرنج، تلعب منذ منتصف القرن السادس عشر. لازلت أخسر بها، يبدو لي أني سأظل أفعل حتى لو كنت ألعبها منذ قرون. فوجئت بالقهوجي أمامي، ظننت أنهم يأسوا أخيرا من إصلاح التليفزيون، وأنه جاء لأخذ طلبي الذي لا يتغير عادة. قهوة مضبوط، ونارجيلة. يعقبها جنزبيل بالقرفة. لكنه طلب مني أن أساعده في إصلاح التليفزيون. قلت معتذرا: لكني لا أفهم في إصلاحه. فاجئني بإصراره. قال: أراك تقرأ كثيرا، وكل ما في الأمر أن أماكن الوصلات باللغة الإنجليزية. حاولت الهروب، لكن إصراره كان مدهشا، كأنه لا يسمعني، كان متوترا لتبرم صاحب المقهى، وإدانته بالجرم المشهود، فقد سقط التلفاز عندما حاول القهوجي أن يصلح شيئا ما. لم يتحطم لحسن الحظ، يقول همسا" قدمي تحملت ألم ثقله، خففت من سقوطه، ولم يرض المعلم" لكنهم عندما نجحوا بصعوبة في إعادة تركيب الوصلات، لم يعمل سوى الصوت. أما الصورة فحل محلها ذلك النمش المميز لتوقف البث.
عيونه المستنجدة بي بوصفي رجل "أقرأ كثيرا" ستصاب بخيبة أمل. لماذا يتحمل صاحب المقهى على أي حال، ألا يكفيه أن يعمل لديه هذا المسكين اثنى عشر ساعة بثمن بخس، هذا المسكين لابد أنه أنجب مزيدا من المساكين، دون أن يفهم أحد ما المبرر. قمت، لا لشفقة به، لكن للانتهاء من هذا المشهد والحصول على كوب قهوة بأسرع وقت. حتى لو كانت الأزمة في اللغة الإنجليزية لأماكن الوصلات، فأنا أرتبك عادة تجاه كل ما هو يدوي، أفشل حتى في إعداد كوب قهوة أو شاي.
صعدت على طاولة كي أصل إلى التليفزيون العالي. قرأت أماكن الوصلات في الريسيفر، كنت سأكتفي بأن أقول له: لا أدري، تبدو الوصلات في مكانها، كي أعود إلى مكاني. لكني وجدت نفسي بدلا من ذلك، أطلب عدة مفكات، لم أعرف لم. جائني بها القهوجي ووافق صاحب المقهي طمعا في أن أوفر عليه أجرة صنايعي. فككت الرسيفر مخرجا المازر بورد، لم أكن حقا أفهم ما الذي يحدث، كنت أعرف أين الخطوة الصحيحة لاصلاح التلفاز. هذا غريب، لكني تابعت، في متاهات المدينة الصغيرة للترانزستور المستغلقة على شخص مثلي، أضاءت أمام عيني القطعة المراد إصلاحها. كان شيئا بسيط، أعدت ضبطها، كأني أحترف هذا منذ زمن. لم تكن دهشتي أكثر من دهشة صاحب المقهي، أعدت تركيب الريسيفر، وعادت الصورة جيدة كما كانت. قال القهوجي الذي راهن علي: مش قلتلك يا بيه.
ابتسمت، لكن هذا شديد الغرابة، لم أعرف لم كان علي أن أخرج المازربورد، ولما نظفت تلك القطعة بالذات. أخرجني من أفكاري انقطاع الصورة وعودة النغمشة من جديد، ها أنذا، ذلك أكثر منطقية، ثم تبدلت القنوات في سرعة قبل أن تستقر على قناة غريبة، وسط فزع صاحب المقهى ونظراته الحارقة. جذبني الرجل في التلفاز، أنا أعرفه، لكني لا أذكر أين. تلك الصلعة، والسمرة والنحولة، والشارب الخفيف، بدا أنه الضيف في الحلقة. كان يصرخ بجنون: إذا أردتم أن يخف الغلاء فلتتحجب النساء. ثم اقترب من الشاشة محملقا فينا، قائلا: أنت.. ألم تسأم بعد من أنك دائما لا ترى الخطوة الصحيحة؟ لقد ذقت حلاوة الأمر.. فاصدع واقترب. ثم عادت النغمشة من جديد لثوان، قبل أن تستقر من جديد على الفضائية المصرية التي كان صاحب المقهي يشاهدها بشغف. بصورة وصوت واضحين.
عدت إلى مكاني متعجبا دون أن أنسى أن أذكره بالقهوة . لكني قررت أن أعود إلى ما أحاول فهمه. الخطوة الصحيحة للطابق الهاديء. ظل صاحب المقهي يقلب القنوات بشكل أزعجني، جائني القهوجي بالقهوة. قائلا: على حساب المعلم، لكنه يستأذنك أن تساعده في إيجاد تردد القناة التي كان يصرخ فيها الرجل: اصدع واقترب.
قلت له بعصبية: لن أبرح مكاني. شربت القهوة، خسرت المزيد من الأدوار، ومضيت.
نشرت في أخبار الأدب