سجن أحمد
ناجي، هو حكم محكمة بإدانة الذكاء والموهبة لا خدش الحياء. سيكره ناجي –قطعا- كل
محاولات تحويله إلى "فلكلور شعبي". تعيش كتاباته في الأساس كمنجل قاس
لحشائش الماضي والأيقونات التي تتحول إلى سم زعاف، أو معرفة تحجب المعرفة. لكن
لاطالما كان أحمد ناجي، مثيرا للأسئلة، قاتل محترف لخرافات، محطما لأساطير الوعي
الجمعي. الوعي الجمعي قد يصيب إجمالا، لكنه يخطيء تفصيلا. الوعي الجمعي ابن غريزة
البقاء، حتى أنه لا يعي إنه في سعيه لطرد شبح الموت لا يحمي إلا الموت ذاته، وعي
ناجي الفردي، هو ابن ذكاء تقصي الموت لاكتشاف المعنى المحجوب للحياة.
سجن ناجي
في الأساس هو إدانة للمحكمة التي أخرجت أرنب الحقيقة "الداعشية" من قبعة
الدستور المسحورة. حرب ناجي/حربنا، لم تكن ضد القاضي الذي أخبرنا في حيثيات حكمه
أن دستورنا هو دستور للقرون الوسطى، يمكن استعماله كمحكمة تفتيش تطارد السحرة
والمهرطقين وخادشي الحياء والخيال ومحاولة استشراف ما بعد "جحيم
القاهرة"، لحماية "العائلة" وأخلاقها. جحيم في الأساس صنعته نفس
الأفكار التي أدانت ناجي وروايته "استخدام الحياة".
المسارات
فشلت، يخبرنا ناجي، والعدم وحده، هو الحقيقة الناصعة. العدم هنا ليس اختيارا
مجانيا، بل هو الأكثر تفاؤلا وصدقا من الأمل ذاته. حيث يتحول "الأمل" من
قبل حراس المعرفة والخيال من "معسكرنا" نفسه إلى "حقن"
بوتكس" تأمل في أن يكون المسار الذي أنتج النظام أقل توحشا وأكثر لطفا.
الأمل في
المسارات القديمة، في إصلاح الجذور، تجديد الخطاب، محض كذبة، ابنة سموم التنمية
البشرية والأثر الباقي لانتظار المعجزة. هذا الأثر القابض ليس فقط في
"المعسكر الآخر" بل أثر قابض على نفوس معسكر المثقفين والأدباء أنفسهم.
المثقفون –بلا
تعميم- لم يتخلصوا من تلك الفكرة بعد: "بابا كان محقا في إدانتي، لكن علي أن
أتمسك بفكرة ماما أنه لم يكن على بابا أن يكون قاسيا في حكم الإدانة، العتاب أفضل
من الضرب". آراء بعض المثقفين لم تخرج عن تلك الفكرة، أنهم من داخلهم يصدقون
فكرة أن النص مدان، لكنه يتجادلون في أنه " مش لدرجة تحبسه".
حرب ناجي
كانت ضد مثقفين، ومارة وعابري سبيل، قراء صدفة، صحافة تقتات على النوستالجيا
وتتعمد تثبيت الصورة، وكلاء نيابة حصلوا على مجموع متدن في نظام تعليمي فاشل.
وكيل
النيابة، لم يكن خاليا من "ثقافة" أو "معرفة"، على العكس قام
باستدعاء" ثقافته" و"معرفته" في مواجهة" ثقافة"
و"معرفة" ناجي. ثقافة وكيل النيابة البالية ولكن "المكرسة
والمجازة" انتصرت في النهاية.
في حكم
الدرجة الأولى حيث حصل ناجي على البراءة، لم تكن هناك وسيلة لإدانة الاتهام إلا
عبر كتب التراث "المكرسة والمجازة التي استخدمت "ألفاظ ناجي".
الاستخدام نفسه الذي يدرك "ناصر أمين" محام ناجي تناقضه، ولكنها كانت
حيلته/حيلتنا الأخيرة القادرة على النجاة.
هنا
تحديدا يكمن الفخ الذي يعيشه مثقفونا يوميا، كل ما تُنصح بقراءته، كل ما هو مكرس،
كل ما هو مجاز، كل الكتب الشهيرة التي قد تستفيض وتتعب لتحصيلها، قد تفضي بك إلى
محض حارس لمعرفة ميتة، قد تَقتل وتُقتل دفاعا عن تكريسها. معرفة تمنع معرفة، تعيق
الرؤية. قد تحيلك -وأنت تظن العكس- إلى محض رجعي "تنويري"، أو محض
مثرثر، بالون منفوخ بكلمات لا تفسر الزمن وترسخ الموت.
لازلت
أذكر بأسى. شاعر يخطو نحو الأربعين، لم يحقق أي شيء في حياته، ولا حتى قصيدة بها
بيت يمكن تذكره. كان يدير قسم الثقافة بجريدة خاصة كبرى" –ابنة صحافة تثبيت
الصورة والكيتش- يعامله الجميع بمهابة العارف، ويعامل الجميع بغطرسة" الموهوب
الحكيم". أخبرني "الحكيم" ذات مرة عن تصوره لمستقبل مصر" يمكن
لو تكاتفنا أن نعود بمصر إلى الأربعينات"، يقصد حركة التنوير المصرية وقتها.
لكن ما تخفيه تلك الجملة البراقة، هي محاولات حراس" المعرفة" لتثبيت
الزمن في الماضي وإيقافه عن التقدم إلى المستقبل. الماضي هو العزاء الوحيد هذا
لهذا الشاعر عن فشل معرفته وفشل تحققه، فالماضي هو زمن لا يمكن إمساكه. عندما لا
يتقدم الزمن لن يهزمه أحد، فكلنا نتساوى في الماضي. تصبح الحجة هي أن لا جديد
صالح، كلكم فشلة لأنكم لم تعثروا على الماضي، ولم يظهر في أجسادكم الانبعاث الثاني
للأسلاف المكرسين. صارت واحدة من علامات حراس "الماضي" بالنسبة لي هو
أنهم لا يقرأون إلا ما يقرأه هذا الشاعر، "بروتوكولات حكماء ريش"
و"هكذا تكلم زرادشت". فهم لا يقرأون إلا الكتب" المكرسة"
و"المجازة". ثم يملكون "الصفاقة" ليخبرونا أن كل كتب"
المستقبل" فاشلة، فهي لم تكتب في الماضي، ولم تعتمدها "الوزارة".
No comments:
Post a Comment